النضال الفلسطيني- من هزائم الأنظمة إلى مقاومة الشعوب وتحررها

المؤلف: المهدي عزوز08.21.2025
النضال الفلسطيني- من هزائم الأنظمة إلى مقاومة الشعوب وتحررها

في خضم الإخفاقات العسكرية والسياسية المتتالية التي منيت بها الأنظمة العربية، بدأت الشعوب العربية في ابتكار وسائلها الخاصة لمواجهة التحديات. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، تحولت القضية الفلسطينية من مجرد اهتمام سطحي للأنظمة إلى قضية محورية تتبناها التنظيمات الشعبية بكل حزم.

في غمرة الصراع، لم تتهاو الزعامات والأيديولوجيات فحسب، بل انهارت أيضًا الجيوش النظامية، وفقدت دورها في تحقيق التحرير. وفي ظل قصور الأنظمة، تجلت حماسة الشعوب وتصميمها الراسخ. وفي مقابل ضعف الجيوش، برزت قوة القوى الضاربة وبأسها.

وكأن التنظيمات السياسية والأيديولوجية قد ظهرت لملء الفراغ وسد النقص. فقد بعثت نكبة عام 1948 مفهوم الجهاد في الأمة العربية، وأطلقت هزيمة عام 1967 العنان للمبادرات الشعبية وأيقظت مفهوم التحرير. كما فجرت معاهدة كامب ديفيد عام 1978 حركات المقاومة في بداية عقد الثمانينيات. وعبر تاريخ القضية الفلسطينية المديد، تعايشت رؤيتان متباينتان: رؤية تدعو إلى المقاومة، وأخرى تنادي بالسلام.

النكبة

بعد سنوات قليلة من تأسيسها، وجدت جامعة الدول العربية نفسها أمام اختبار عسير: القضية الفلسطينية. لم يكن الهدف من تأسيسها تحرير فلسطين، بل كان محاولة من بريطانيا لتجاوز آثار خداعها للشريف حسين.

فقد جاء ميلاد الجامعة كتعويض عن دولة الوحدة القومية والإسلامية. وبالتالي، لم تكن فلسطين على رأس أولويات تلك المنظمة الإقليمية الناشئة. ومما لا شك فيه أن عجز المنظمة وأنظمتها عن معالجة القضية منذ بداياتها قد دفع باتجاه تدويلها. وكان قرار التقسيم في نوفمبر/تشرين الثاني 1947 هو حجر الزاوية للكيان المحتل، لتندلع بعده مواجهات عنيفة.

في اجتماع "العالية" عام 1947، قررت الحكومات العربية تشكيل فصيل شبابي مدرب تدريباً جيداً وذا كفاءة عالية. وتولت جامعة الدول العربية تأسيس "جيش الإنقاذ" بقيادة فوزي القاوقجي. لكن الضغوط البريطانية حالت دون إنجاح هذا المشروع. وهو المصير نفسه الذي لاقته لجنتهم العسكرية بقيادة "طه الهاشمي" واللواء إسماعيل صفوت باشا.

وحتى النجاحات التي حققتها تلك الجيوش في المراحل الأولى للصراع تبددت بفعل المناورات الغربية (الهدنة الأولى والثانية). وكانت نكبة عام 1948 بداية سلسلة من الهزائم العربية، إذ لم تكن الحكومات العربية على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها.

فبين العجز الذاتي والارتهان للقرار البريطاني والخيانة الصريحة، أسقطت الحكومات العربية من حساباتها أي مواجهة جادة للأطماع الصهيونية في فلسطين، وتنصلت من مسؤولياتها القومية والإسلامية.

فقد خضعت معظم الحكومات العربية لإرادة الغزاة، وظلت "تستجدي الحلول من القوى الإمبريالية التي كانت ولا تزال تشكل رأس الحربة في أزمة القضية الفلسطينية".

ففلسطين لم تكن "المحرك الرئيسي لسياسات الدول العربية، بل كان الدافع وما يزال هو تأمين الأنظمة الحاكمة في الدول الوطنية في مرحلة ما بعد الاستعمار". وكانت هذه الحسابات السبب المباشر في تأخير الاستجابة لنداء الجهاد في فلسطين.

التنظيمات الشعبية ونقد الدولة

في مواجهة عجز الأنظمة العربية، تدخلت التنظيمات في الصراع قبل النكبة وبعدها. فكتب ميشيل عفلق عام 1946 قائلاً: "لا ينتظر العرب ظهور المعجزة: فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي". وساد اعتقاد لدى حسن البنا بأن الأنظمة العربية ليست جادة في مقاومة الاحتلال.

وأكد كامل الشريف "أنه لا خير يرجى في هذه الحكومات". فالعوائق أو "المصائب" أو "العبث" الذي يتجسد في فساد أنظمة الحكم القائمة، وهيمنة الاستبداد السياسي، والخلافات بين الدول العربية… كل هذه العوامل مجتمعة كانت "كافية لإيقاع الهزيمة".

وقد كان نقد الموقف العربي الرسمي من القضية الفلسطينية مقدمة لسحب القضية من الأنظمة ووضعها بين أيدي الفعاليات الشعبية المدنية والعسكرية. ففي فلسطين، بادرت "الهيئة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني بتشكيل قوات "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني.

وخلال الأشهر الخمسة الأولى للحرب، تمكنت تلك القوات من إلحاق خسائر فادحة بالعصابات الصهيونية. ولكن مع دخول جيوش الدول العربية فلسطين في 15 مايو/أيار 1948، "ظهرت سياسة إقصاء الفلسطينيين عن ميادين المعركة ومنع الأموال والأسلحة عنهم".

وقد جاء تقرير عبدالقادر الحسيني للجامعة العربية في أبريل/نيسان 1948 يحمل مرارة وأسى بسبب خذلان لجنتها العسكرية التي تلكأت في إمداده بالمال والسلاح. وفي ذلك التقرير، حمّل الجامعة مسؤولية ضياع فلسطين. واستشهد بعدها بيومين في معركة القسطل.

أما عربياً، فقد تدفق المتطوعون العرب نحو فلسطين. وبرزت كتائب الإخوان المسلمين كقوة وازنة في الصراع في تلك الحقبة. فعلى الرغم من تضييق السلطات، نجحت طلائع الإخوان في التسلل إلى داخل فلسطين، حيث تمكنت قوة من المتطوعين بقيادة أحمد عبدالعزيز من الوصول إلى خان يونس. والتحقت بهم قوة أخرى من شرق الأردن بقيادة عبداللطيف أبوقورة. ثم حلت قوة أخرى من سوريا بقيادة زعيم الإخوان مصطفى السباعي.

وفي غزة، استقرّت قوة البكباشي عبدالجواد طبالة. وعلى أرض فلسطين، خاضت تلك الطلائع معارك ضارية ضد العصابات الصهيونية. وقد علق هيكل على تلك الاشتباكات بالقول: "لقد أثبت بعضهم نفسه تحت نيران القتال". وهكذا، كانت الجماهير العربية خلال النكبة متقدمة على حكامها.

النكسة

في صباح الخامس من يونيو/حزيران، قضت قوات الاحتلال على القوات الجوية المصرية بضربة خاطفة. فقد دمرت مئات الطائرات المصرية في قواعدها، وضربت المطارات وشلت قواعد الصواريخ أرض-جو.

وقد وصف أنور عبدالملك المشهد بقوله: "كانت القوات المصرية المسلحة قد ضُربت بشكل خطير، واحتلت سيناء، وشلت قناة السويس، ومُحي سلاح الطيران عمليا كوحدة مقاتلة، وتفجرت أعمال الخيانة والإجرام والتآمر، وانتشرت في كل مكان". كل ذلك في غضون ساعات قليلة. وبإخراج القوات الجوية المصرية من الخدمة، تركت بقية القوات في العراء دون أي غطاء جوي.

وجاء قرار الانسحاب غير المدروس من سيناء ليزيد من الكلفة البشرية للهزيمة. ومع انهيار الدرع الواقي الذي كان يحمي عمق الأمة، أصبح عمق الجغرافيا العربية – فضلا عن أطرافه – مهدداً. فزحفت قوات العدو نحو سيناء بعد أن دمرت بقية القوات المسلحة المصرية.

واندفعت نحو الضفة الغربية فاحتلتها واستولت على القدس الشرقية بعد أن انهارت الدفاعات الأردنية في اليوم التالي. وكذلك فعلت في قطاع غزة. أما القوات التي اتجهت نحو سوريا فقد "تمكنت من احتلال مرتفعات الجولان دون مواجهة أي مقاومة تتناسب مع القوات العسكرية الضاربة المحتشدة هناك".

ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أحكمت قوات الاحتلال سيطرتها على مساحات جديدة. ويكفينا من القراءات لتلك الكارثة المدمرة وصف هشام شرابي للهزيمة بـ "أيام حزيران السوداء". فكيف انعكست الهزيمة على الاختيارات النضالية للفلسطينيين؟

مثلت هزيمة عام 1967 نقطة تحول استراتيجية في الوعي السياسي الفلسطيني. وكان من نتائج الهزيمة "ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة وتعاظمها، وبروز الهوية الوطنية الفلسطينية التي قررت أن تأخذ زمام المبادرة بعد أن تبين لها مدى الضعف العربي". فقد قضت الهزيمة على إيمان الفلسطينيين بالحكومات "التقدمية" التي كانت معقد الآمال، "وأثبتت فشل الأنظمة العربية وعجزها عن تحرير فلسطين".

وينقل يزيد صايغ عن خليل الوزير أنه كان يرفض "الاعتماد على الدول العربية وجيوشها". وهكذا، ساعدت تلك البيئة على الاعتراف بالحركة الوطنية الفلسطينية كلاعب أساسي في الشرق الأوسط.

ويحسب للحركة أنها نجحت في "فرض نفسها كمعبرة عن الطموحات الوطنية للشعب العربي الفلسطيني". وهو ما أسهم في تشكيل الرؤى السياسية والميدانية للمنظمة. ففي المستوى الأيديولوجي، قلبت حركة فتح ذلك الشعار الذي لطالما تغنى به القوميون العرب "الوحدة طريق فلسطين" إلى شعار "فلسطين طريق الوحدة". وهو شعار ستتأسس عليه الكثير من التحولات التكتيكية والاستراتيجية. ومنذ أن استعادت منظمة التحرير المبادرة، اختارت الاستقلال السياسي والتنظيمي عن الجامعة العربية وأنظمتها.

وأما ميدانياً، فقد بدأ مفهوم العمل الفدائي يتبلور كبديل من الحروب النظامية. وعلى تلك القاعدة، كانت انطلاقة الثورة الفلسطينية في مطلع عام 1965. وساد إجماع لدى أغلب الفصائل الفلسطينية مفاده أن تحرير الأرض لا يكون إلا عبر الكفاح المسلح. وهو المضمون المركزي الذي تبناه "الميثاق الوطني الفلسطيني".

واندلعت سجالات سياسية حول نظرية التحرر الوطني من خلال دراسة النظريات الثورية وتجارب الشعوب المستعمرة. وأنتج ذلك مجموعة من الأدبيات دارت معظمها حول حرب الشعب، وحرب التحرير الشعبية وغيرها.

وفي ضوء تلك الأدبيات، جرى تأسيس عدة قواعد للعمل الفدائي في معظم دول الطوق. وكانت ملحمة الكرامة عام 1968 ترجمة عملية لتلك التوجهات الجديدة. وهو ما زاد في ترسيخ النهج المقاوم حتى أصبح "الكفاح المسلح مصدر الشرعية السياسية ورمز الهوية الوطنية، والمادة الجديدة للمجتمع الفلسطيني المتخيل".

والحقيقة أن الأداء الفصائلي بعد الهزيمة لم يقطع الصلة تماماً مع الأنظمة الراديكالية. فغالباً ما كانت التصورات الثورية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمر بها الأنظمة. ولكن رياح يونيو/حزيران بقدر ما أذكت نار الاستنزاف، فقد هيأت للعبور.

حرب العبور

بعد رحيل جمال عبد الناصر، شهدت مصر تحولات سياسية جوهرية. فالمناخات الراديكالية في مصر والعالم العربي بدأت في الانحسار لصالح اتجاه عربي يميل إلى "الاعتدال" في معالجة الصراع. وتوصل السادات إلى قناعة مفادها أن "تدمير الدولة اليهودية هدف غير قابل للتحقيق". وفي هذا السياق، لم تكن حرب العبور سوى عملية جراحية تهدف إلى الإعداد لمسرح التسوية.

لقد مثلت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 أول انتصار مصري على قوات الاحتلال بعد ثلاث حروب متتالية. فقد بدأ الهجوم المصري في ظهيرة السادس من أكتوبر/تشرين الأول على مواقع العدو في سيناء بهدف تحييدها وحرمانها من أي قدرة على الرد أو الحركة قبل تحقيق العبور إلى شرق القناة. فتحقق "وقع المفاجأة بنوعيها الإستراتيجية والتكتيكية إلى نهايته".

ومنذ ليلة السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عبرت من الجيش المصري نحو شرق القناة خمس فرق مشاة ومئات الدبابات وعدد من كتائب الصواريخ وأسلحة إسناد أخرى.

استبشر الفلسطينيون بتلك التطورات الميدانية، واعتبرت منظمة التحرير الفلسطينية أن إعلان الحرب على دولة الكيان كان "فرصة عظيمة أمام الفدائيين الفلسطينيين لتصعيد فاعليتهم القتالية".

لكن العبور لم يتبعه تطوير للهجوم المصري كما كان مخططاً له. فقد جرى الالتفاف على الانتصار المذهل للمصريين في بداية الحرب. ومن خلال "الثغرة" التي أحدثها جيش الاحتلال في جدار المواجهة، بدأ في تحقيق تفوق ملموس غرب القناة.

وكشفت تلك الأيام العصيبة عن غياب التناغم بين المؤسسات. فقد أربك تدخل السادات في إدارة المعركة حسابات العسكر، وحكم على حرب العبور ألا تتجاوز خط العبور.

لقد تحول النصر إلى سعي دائم وراء سراب "السلام"، وانتهى تحطيم جدار بارليف عام 1973 إلى هدم "جدار الكراهية الحديدي" عام 1977، كما كان يتوهم السادات. فبدلاً من البناء على "العبور"، اندفع العرب نحو التسوية.

وقد أدرك كيسنجر مبكراً أن الإجراءات العسكرية التي اتخذها المصريون سوف "تؤدي آجلاً أو عاجلاً إلى مفاوضات سياسية". والحق أن مآلات العبور لم تكن مثل مآلات النكبتين، فهي لم تدفع إلى السطح بقوى جديدة تتعارض بشكل جذري مع تصورات الأنظمة العربية للقضية.

بل إن كامب ديفيد قد فتحت الباب على مصراعيه نحو التسوية، ولم تكن إلا بداية الهرولة العربية نحو الصلح والاعتراف والتفاوض مع دولة الاحتلال.

وهنا تؤكد حقائق التاريخ أن منظمة التحرير الفلسطينية قد أصبحت متماهية مع الرسمية العربية، وأن عرفات لم يكن مختلفاً عن السادات، فكلاهما كان ينشد "التسوية"، وإن اختلفت التكتيكات والاستراتيجيات.

لقد ظلت الهوة تتسع بين الأنظمة العربية وشعوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية. فكلما ضعفت الأنظمة، قامت الشعوب تنادي بالتحرير من خلال المقاومة. فمن نكبة عام 1948 ولدت القوى الشعبية القومية والإسلامية، ومن نكسة عام 1967 اشتد عود منظمة التحرير الفلسطينية.

لكن حرب العبور كانت فاتحة للتسوية المعممة، تسوية ستستمر مفاعيلها من كامب ديفيد عام 1977 حتى أوسلو عام 1993، مروراً بقصر الصنوبر في الجزائر عام 1989. ورداً على مشاريع التسوية، كان أسلوب آخر من المقاومة يتشكل ببطء.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة